وجهات نظر

صنع الله إبراهيم في رواية في “67”

قراءة يجريها الكاتب والروائي حمدي البطران..

تمتاز كتابات صنع الله إبراهيم، بانها تعبير حي وحيادي، عن الواقع الذي نحياه، ونعيشه بكل مرارته وقسوته، وهو يضع المرارة والقسوة أمامنا بحياد شديد.

الحياد الصادم، الذي يقول كل شيء ببساطة متناهية، وكأنه لم يقل شئ .
كتب صنع الله روايته “67” عام 1968 , وخاف ان ينشرها في مصر , وذلك لوجود الرقابة الصارمة التي تشك في كل شئ , فأخذها معه الي بيروت, حيث كان يعمل بالترجمة في الصحف , وحيث توقع ان يكون هناك بعض الحرية , ولكن دور النشر هناك , رفضت نشرها , كما رفض صديقه سهيل أدريس , ان ينشرها في صحيفته الاداب , لإغراقها في الجنس , مع أنه نشر رواية تفوقها في الجنس .

نسي صنع الله أمر الرواية “67” بعد ذلك، وانشغل بروايته نجمة أغسطس، وبعد ثورة يناير 2011 , والتي رغم أنها فشلت في تحقيق أهدافها، إلا أنها ساهمت في إتساع سقف الحرية غير المسبوق في مصر . وفي تلك الأثناء، عثر علي الرواية، التي كان قد وضعها في مكان أمين , تحسبا لزيارات رجال السلطة المتكررة له , لتظهر لنا تلك الرواية بعد سبعة وأربعين عاما من كتاباتها .

الرواية نشرت في مجلة الكاتب، التي تعني بشأن الكتاب الثقافي في مصر، والتي تصدر عن الهيئة المصرية للكتاب، ويرأس تحريرها الكاتب الصحفي المتميز محمد شعير .

تدور احداث الرواية في عام 1967 , وهو العام الذي حدثت فيه النكسة الكبري , وهو أيضا نفس العام الذي حدثت فيه التحولات الكبري في مصر , إثر هزيمتها عسكريا في سيناء , وتم حسم الصراع علي السلطة , الذي تفجر في أعقاب الهزيمة , لصالح جمال عبد الناصر , ومن هذا العام بدا نظامه يصاب بالهرم , وهي الفترة التي تناولها صنع الله , من خلال شخصياته العديدة , والتي عبرت , وبحق , عن جو التفسخ العام , الذي كان سائدا في تلك الفترة , والتي عبرت عنها تصرفات البطل , وشخصيات الرواية الغير سوية , تفعل ما تريد ببلادة منقطعة النظير , وتتصرف بتلقائية.

عبر صنع الله من خلال طريقة سرد محكمة، وهي طريقة السرد التي تخصه وحده، ويتميز بها, والتي أعادتنا الي هذا الجو المتلبد بغيوم الحرب في مصر في تلك الفترة , يصف لنا صنع ابراهيم , الحياة في القاهرة في هذا العام المحوري .

ومن خلال الرواية نتوقف علي ما كان يحدث وقتها، ونعرف ان المدينة عاشت جو الحرب، دون أن تستعد تماما له . ونعيش معه في النشوة الكاذبة بسهولة النصر، لننغمس في الحقيقة المؤلمة التي داهمتنا في ذلك الوقت.

لا ينفعل البطل السارد بالأحداث، يبدو هادئا في اغلب الأوقات، اختاره الكاتب، من شريحة معينة من المصريين، الذين جرحوا جرحا عميقا، في خصائصهم الإنسانية، وأهدرت كرامتهم بالتعذيب في السجون، فخرج منها البطل جريحا , يستهين بكل القيم والأعراف .

تدور الرواية حول شاب يعمل في الصحافة، خارج لتوه من السجن، حيث تعرض للتعذيب، ويتوقع دخول السجن مرة أخري، البطل مهزوم، وغارق في الخمر والجنس.

تبدأ الرواية بمشهد نهاية عام 1966 , من خلال حفل راس السنة الجديدة 1967 , حيث يشرب الجميع الخمر، وفي خلال الحفل، لا يخلو الحديث من انباء الإعتقالات والتعذيب الذي يصل الي حد القتل والدفن، والضابط الذي كان فقيرا ويلعب الان بالآلاف، وحديث عن فساد يطل برأسه خلال كل المؤسسات.

كتب صنع الله يومياته بطريقة اليوميات، وإن كان لا يشير الي ذلك، فهو يورد حياته خلال هذا العام، من خلال عمله في الصحافة، وحياته الخاصة وعلاقته بزوجة أخيه الأكبر، ألتي لا تري في علاقتها بشقيق زوجها الصغير، ما يشين، فهو يقول لها: لو كنت عرفتك قبل زواجك من اخي كنت تزوجتك، وتقول هي، إنها لم تكن لتلتفت إليه.

تتجلي لنا حالة البطل النفسية، والذي لم نعرف اسمه، من خلال ما يرويه من احلام مزعجة وكوابيس.

يقول نهاية الفصل الأول، إنه أشعل سيجارة ثم أطفأها ونام، ووجد نفسه يحدث انصاف “زوجة أخيه ” في التليفون، وكانت تسأله عن شئ حدث في الماضي، وانتهي الحديث، ثم وجد نفسه في ينام في زنزانة , وكان بابها محطما وقضبانها مثل الأقفاص , وحاول إصلاحها ليحكم إغلاقها , خوفا من شخص ما , وأنه راي جسما اسود في فرجة الباب , ثم ظهرت له عينين مرعبتين , وصرخ , وفكر انه ليس بكابوس لأن صوته كان واضحا , ثم رأي ابيه يرقص في فرجة الباب , ثم تحول الي صورة الشيطان , وظل يصرخ , ثم إستيقظ واشعل سيجارة .

ايضا في الفصل الحادي عشر , (قبل الأخير) يحكي عن كابوس آخر , ويقول إنه تغطي جيدا ونام , وراي أن إمراة شقراءبأصبغ كثيرة تتجه نحوه في تصميم , وتمسك بذراعه , حاول أن يعض يديها الرقيقتين الصغيرتين , وقالت له إنهم سخوا أفخاذها , ثم وجد نفسه أمام دولاب صغير وفوقه عنكبوت أسود , حاول أن يضربه بالشبشب , ووانه أصاب حذاءا نسائيا اسود , ولمح العنكبوت سقفز في الهواء وتحول الي فرقع لوز , ثم ضربوه وسقط قس ركن يتلوي , وأراد أن يري وسط العنكبوت وهل هو مستدير , فإذا به يقفز عدة مرات وهو يصرخ وبجواره جزء منه منفصل عبارة عن أفخاذ مسلوخة . , وأدرك أن ما قالته السيدة حقيقي , ثم وجد نفسه في ممر وشعر بشئ في ظهره , وفكر أنه ربما كان عنكبوتا كبيرا علي وشك أن يلدغه , وحاول أن يتذكر أين يكمن خطره , وكان عاجز عن خلع سترته , ودار بها امام الجالسين , وكان يتمني ان يساعده أحد , ولكن أحدا لم يفعل .

وفي هذا دلالة عميقة على حالة البطل النفسية وما يعانيه، يحكي البطل مفردات حياته بحياد تام , دون أن يخفي شئ , ونعرف أنه يمارس ما يعرف بجنس المحارم , بتلقائية وبرود شديدين مع زوجة أخيه ألأكبر منه , والذي يشاطره المسكن, , ويصف لنا في كل مرة تفاصيل يلتقي بها , لقاءه الحميم , بالتفصيل الممل , وكأن البطل يجد لذة في إستعادة ما حدث معه, يبدأ الحكي , منذ أن يلمسها حتي بنام بجوارها منتهيا منها , ولا يتورع أن يحكي ما يفكر فيه وهو يمارس معها .

يعاني البطل من الشبق أو السعار الجنسي , ومع أنه لم يكن محروما من الجنس , فقد كان متاحا له مع زوجة اخيه ,وبعض زميلاته في العمل , إلا أنه يلهث وراء الأوتوبيسات المزدحمة في شوارع القاهرة , ليلتصق بإمراة من الخلف , وهو يجد لذة كبير في هذا العمل , ويصف لنا بالتفصيل الدقيق , ما يحدث من مراحل استكشاف رغبة المرأة , وإستطلاع الموقف حتي الوصول الي التاكد من رغبتها وموافقتها, قائلا:

– أبصرت سيارة مزدحمة , وركبت السيارة , كانت تقف إمرأة مستندة الي العمود المجاور للسائق , وقفت خلفها وظهري لها , وراقبتها , بزاوية عيني , وأنا أدفعها بظهر ساقس , ورأيتها تلتفت منزعجة , متوقعة أن تجد احدا خلفها بوجهه, فإطمأنت عندما رأت ظهري , وبعد قليل عدت أدفعها بساقي في خفة , , فإبتعدت , وبحثت عيناي عن غيرها , فلم اجد غير سمراء متعبة كانت تراقبني من مانها بين الدرجتين , ولم يكن من السهل أن اصل اليها , في الزحام , وشق احد الركاب طريقه الي الباب المجاور لي لينول في المحطة القادمة , ووقف عنده ممسكا بالعامود الذي تستند اليه المراة المنزعجة , ودار بإصبعه حول العمود وحاول أن يلمس ظهرها وهو يميل الي الأمام متظاهرا بأنه يريد أن يتأكد من المحطة التي سينزل فيها .

كما كانت له رغبات شاذة و كان يمارسها في الزحام , من خل جنس لم يكتمل , وناقص , فيحكي عما يحدث في تلك الأتوبيسات المزدحمة , وسلوك بعض المتحرشين داخلها , ويقول :
– إنتظرت حتي جاءت سيارة مزدحمة مائلة الي الأمام , شققت طريقي الي باب الدرجة الأولي , حاشرا نفسي بين الصاعدين , وكانت هناك فتاة صغير ,تحاول النزول , وكان الشاب الذي يتقدمني يمد يده ويعتصر ثدييها في وحشية,شرع الأتوبيس في التحرك , والفتاة تحاول النزول بلا فائدة , والشاب يعتصر صدرها , وبدا الرعب علي وجهها وصرخت قائلة إنها تريد النزول ,تم بكت نجحت أخيرا في أن تمر من الشاب , فإستدر خلفها , ومد يده الي ظهرها ,.
هنا يعكس الرواي حالة من السلبية العامة العامة , التي هيمنت علي سلوك المصريين , ربما من شدة الزحام , أو من قسوة الحياة علي الشباب المكتوم , وكان هناك تواطؤ عام , علي تركهم الشباب , يريحون أنفسهم بتلك الممارسات الشاذة . التي تفشت في ذلك الوقت . فيقول:

– وكنا جميعا نتطلع الي وجهه الوادع ووجه الفتاه المرعوب، ووقفت في الزحام أتصبب عرقا وتهدل قميصي,ولم تكن هناك غير إمرأة واحدة علي غير مبعدة, ولكنها كانت محاصرة, وكان الجميع يتبادلون النظرات .

تحتاج الرواية الي خبراء نفسيين, لا الي نقاد أدب, لكشف خبايا نفسيات الأبطال ومحاولة تفسير تصرفاتهم, في ضوء عليم النفس .
ومع ذلك فالرواية شيقة, ولها جاذبية خاصة, كمعظم روايات صنع الله إبراهيم.

اقرأ أيضاً..تردد قناة box movies الجديد 2023

رابط مفتوح.. نتيجة مسابقة التربية والتعليم 2023 بالرقم القومي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى