“حصار”.. رواية قصيرة للروائي السيد نجم
معذرة يا سيد الألم.. هبت الريح المنحدرة من نشيد الألم, ولأنه لم يتاجر فى بنات الهوى ولا يعرف سوى الكتب القديمة.. تلبسته الدهشة. الدهشة.. أوقعته فى عتمة المجهول, وفى العتمة توصد أبواب البكاء, وتفتح مزاليج الدرب المحتوم.
أصبح جسده أكثر خفة, ليس بسبب أن فقد خمسة كيلوجرامات من وزنه خلال اثنا عشر يوما, ولا بسبب ذاك الألم الذي نهش أمعائه فجأة.
شعر وكأن خرطوم نقل المحاليل المثبت فى ذراعه اليمنى أو اليسرى, مع خرطوم “الرايل” الملعون الذي رشق إحدى فتحتي أنفه إلى البلعوم ثم المريء فالمعدة.. معا يحملانه ما بين السماء والأرض. وان بدا للرائي الذي يجهل ما يشعر به من خفه, أنه مثبتا على سريره.
“إن شاء الله خيرًا..لا تحزن, اطمئن”
قالها الممرض المؤهل بشهادة دراسية معتمدة وبعشر سنين من العمل فى المستشفى الخاص, بدا وكأنه يزف البشرى, وهو يدرك خطورة سقوط خرطوم “الرايل” قبل إتمام دوره. لم تنحصر مهمة خرطوم(الرايل) على نقل إفرازات معدته الغامضة إلى كيس خارجي, هونت عليه أعراض القيء المستمر والفواق المزعج الذي ألمت به بسبب شلل أمعائه المفاجئ, حتى أن الطبيب المعالج حذره قائلا: “إنها حياة أو موت.. لو فشلت فى إدخال الخرطوم من أنفك سوف تموت خلال ساعات معدودة” قالها مع اللحظات الأولى لدخوله المستشفى!
شعرت الزوجة بالقلق, لم تطمئن كما طلب الممرض منها ومن زوجها. تمنى لو تشعر بالسعادة التي غمرته لتخلصه من ذاك الخرطوم!. لم تترك للأماني فرصة لأن تزدهر, أسرعت إلى رئيسة التمريض بالدور التاسع من مستشفى القاهرة التخصصي. عادت فورا, أخبرت زوجها: “محمود الممرض أخبر الجميع, ووصل الخبر كما البرق إلى الاستشاري الكبير المعالج”!
طلب من زوجته أن تقرأ له من الجريدة, وأن تضئ شاشة التلفاز, لعله ينشغل عن ألمه الذي لم يبرحه بعد, وان خفت وطأته قليلا.
..هروب متعهد حفلات “أوبرا عايدة” دون سداد مستحقات الفنانين, المتعهد حمل معه مليونين ونصف المليون جنيه.
..”ليندا فرانكلين”, سبع وأربعون سنة, تعمل فى مكتب التحقيق الفيدرالي.. كانت تتسوق من المحل التجاري فى إحدى ضواحي واشنطون, وأصبحت الضحية التاسعة لقناص مجهول أزعج العاصمة الأمريكية.
..يقول “بوش” رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أن الاعتداءات الإرهابية فى الكويت واليمن وإندونيسيا مخطط واحد.
كان يتمنى أن يقتنص أحلامه الطائرة هناك, لم يتابع اللعبة. يتجدد الألم الذي حير الطبيب الكبير, وطلب عمل أشعة مقطعية على البطن فورا.
اختلق المريض سماء تخصه وحده, خط شريعته, واعتنق الحكمة التي ما كان يعرف شيئا عنها. “الاعتياد” يفقد الرأس ملكة التفكير والتفكر, وفى الألم والعجز محطة لتجاوز اعتيادية الأيام والليالي والأشياء. وأن فى تناول “الطعام” نعمة لا يدركها أصحاب عادة تناوله ثلاث مرات يوميا, وربما أكثر.
تجاوز الرجل ما دار برأسه, سأل زوجته التي ما أن سمعته ظلت تضحك طويلا على الرغم من حزنها الدفين على جسده المعلق بالخراطيم. قهقهت وهو مازال يلح جادا يقول: “أريد أن آكل طبق “بصارة”
حاول إقناعها, لعلها تتعاطف مع رغبته تلك: “هل تعلمين ماذا أرى منذ صباح يومنا العاشر هذا فى تلك المستشفى؟”.. لم ينتظر إجابة: “رأيت طبقا معبأ بالبصارة يغازلني فى سقف الحجرة.. أنفى تشم رائحة التقلية والنعناع!”
يا لها من وجبة سخية وشهية, تلك “البصارة” التي لم يتناولها منذ خمس عشرة سنة, منذ أن تزوج التي مازالت تضحك.
خال نفسه مع “البصارة” يصطاد فاكهة محرمة سوف تنزعه من جسده المقيد إلى سماء أحلامه الغامضة!
تناول اللهفة نحو يوم آخر, يتمنى لو يعانق الغد وبعد الغد. لكن العصافير بلا أجنحة, وأحشائه التي قفزت من خلف جدران بطنه تعلقت بالسنة النار.
لم تكن تلك الورود المقيدة فى غلالة من الورق السيلوفان تشعره بالبهجة أو الأمل. لمحها تذبل يوما بعد يوم. وعندما قررت زوجته تسليمها إلى عاملة النظافة.. تجاوز كل ألم. علا صوته ونهرها: “لن يحدث, دعيها تذبل ولا ترميها فى سلة المهملات.”
صبرت الزوجة حتى انتهى من كلماته المنقوصة, وقد نطقها ممزقة. ثم قالت: “لن القي بالباقة غالية الثمن تلك..”. كان يعلم أنها تتكلم عن تلك الورود الصناعية التي بلا رائحة, ولم تذبل. لم يجد فى نفسه القدرة على المناكفة, لكنه حاول دون أن ينطق بكلمة واحدة, تابع محاولته الخاصة جدا فى اقتناص أحلامه من جديد.. وحده .
تعقب الرجل المريض سبل المقاومة.. وان بدا مستسلما للشكشكات والخراطيم المعلق بها. ممدد الذراعين, يبدو الرأس بمستوى الجسد, ومع ذلك لا يشغل من مساحة السرير إلا القليل, ظن أنه تأقزم أكثر من اللازم.
تظن جماعات الزوار المتراصة بين جوانب الحجرة التي ضاقت بهم, وكأنه ليس متابعا لثرثرتهم. إلا أنه بقى متابعا ملهوفا , وبقى مشاركا وان لم ينبس ببنت شفه.
الخبيث عقد عقدا مع قوى غامضة وصادقته, قال لها: افتحي الأبواب أيتها الريح الشديدة, افتحي النوافذ أيتها العصافير العنيدة, افتحي الأرحام أيتها المولدات الماهرات, افتحي النار أيتها الحرب المقدسة.